التفسير والفهم في العلوم الانسانية



المحور الثاني: التفسير والفهم في العلوم الانسانية.


اشكالية المحور:

 هل يمكن تطبيق منهج الفهم أم التفسير في دراسة الظواهر الإنسانية؟ أم هما معا؟ هل للفهم والتفسير نفس المكانة والقيمة في العلوم الإنسانية؟.
الإشتغال على السؤال الفلسفي المفتوح:
هل يصح الحديث عن التفسير في العلوم الإنسانية؟.


   يحيل مضمون السؤال على المجال الإشكالي للمعرفة، التي تحاول أن تجيب على إشكال أساس وهو كيف نعرف؟ وبتحديد أدق يعالج السؤال موضوع المنهج في العلوم الإنسانية والحق أن هذه الأخيرة جاءت متأخرة النشأة قياسا بالعلوم (الدقيقة) كما جاءت تلك النشأة كنتيجة لما دأبت المجتمعات تعرفه من قضايا نفسية واجتماعية جديدة ارتبطت بتطورها، هكذا أصبحت هذه العلوم تسعى إلى تحويل الإنسان إلى ظاهرة قابلة للدراسة العلمية الموضوعية، إلا أن تميز الإنسان واختلافه عن الظواهر الطبيعية جعل العلوم الانسانية تعرف مشاكل ابستمولوجية من نوع خاص، من تم بدأ العلماء يتساءلون حول مدى قدرة هذه العلوم على بلوغ دقة العلوم الطبيعية، لذا بدأ التحليل الابستمولوجي يحاول الاجابة على بعض الاشكاليات خصوصا تلك المرتبطة بالمنهج ومن أبرز هذه الاشكاليات، الإشكال الآتي: هل يمكن الحديث عن التفسير في العلوم الانسانية؟ ويمكن تفكيك هذا الإشكال واعادة بنائه استفهاميا من خلال التساؤلات التالية: ما المقصود بالتفسير ومادوره  في بناء المعرفة العلمية وما هي حدوده؟.
   جوابا على الإشكالات السابقة، يذهب منطوق السؤال إلى تأكيد أطروحتين متعارضتين، أطروحة أولى تحدد الجواب بالإيجاب، وأطروحة ثانية تحدد الجواب بالسلب، الأولى ترى أنه يصح الحديث عن التفسير في العلوم الإنسانية، مادام التفسير يحيل على كشف العلاقات الثابتة بين حادثين أو أكثر، وإقامة علاقات سببية بينهما بموجب ذلك، وقد ارتبط التفسير أساسا بالعلوم الطبيعية (الدقيقة) حيث أن العقلانية العلمية تسمح ببناء قوانين لاعتمادها على التكميم والتعميم، ثم التنبؤ والتفسير بناء على تلك القوانين( تفسير سقوط الأجسام). بناء على الاستراتيجية السابقة استطاعت هذه العلوم بلوغ درجة عالية من الدقة والموضوعية، مما دفع بمجموعة من العلماء إلى الدفاع عن منهج التفسير والمطالبة بإدماجه في العلوم الإنسانية، هنا نستحضر (إميل دوركايم) في محاولته الرقي بعلم الإجتماع إلى مرتبة العلم الدقيق، بعيدا عن المناهج التأملية، وبما أن التفسير يقوم - كما أسلفنا- على ربط ظاهرة بأخرى ربطا سببيا، فإننا نعثر في دراسة " دوركايم " لظاهرة الإنتحار على حالة تكاد تكون نمودجية، لمنهج التفسير في العلوم الانسانية: فبناء على إحصائيات الانتحار في عدد من الدول الأوربية، خلص إلى أن معدلات الانتحار تتناسب عكسيا مع درجة التماسك الديني، لذلك ينتحر البروتستانت أكثر من الكاتوليك ومع درجة التماسك الأسري، لذلك ينتحر العازبون أكثر من المتزوجين... اذن الظواهر الإنسانية مرتبطة فيما بينها بعلاقات سببية ثابتة مثلها في ذلك مثل الطبيعة، هذا ما يجعلها قابلة للتفسير، لذلك يقول " دوركايهم" (( ليس للفكر العلمي إلا طريقة واحدة وسبيل واحد في كل مجال يدرسه وأية ظاهرة يتعامل معها، وسبيل العلم هو الملاحظة والتجربة وتحديد العلل (الأسباب) والبحث عن القوانين... ومن أجل ذلك يجب معاملة الظاهرة الإنسانية كشيء وأن نتخلى عن تصوراتنا المسبقة بشكل دائم)) ولكن ألا يؤدي تفسير الظواهر الإنسانية على غرار الظواهر الطبيعية إلى افراغ الأولى من أهم مقوماتها ومكونها الداخلي أي الدلالات والنوايا والمقاصد والاكتفاء بالمحددات الخارجية للعقل؟ أليست الظاهرة الانسانية، ظاهرة تتسم بالخصوصية وغير قابلة للتكرار؟ بهذه الإحراجات، ننفتح على الأطروحة الثانية التي تحدد الجواب بالسلب وترى أننا نفسر الطبيعة، لكننا نفهم ظواهر الروح على حد تعبير " دلتاي " فإذا كان التفسير قد أثبت نجاعته في العلوم الحقة، فإنه يصعب تطبيقه في مجال العلوم الإنسانية، نظرا لخصوصية الظاهرة المدروسة وغير قابليتها للتكرار، لذلك يتم الحديث عن منهج ملاءم لخصوصية الظاهرة الانسانية وهو منهج الفهم والمقصود به إدراك الدلالة التي يتخذها الفعل بالنسبة للفاعل وتتكون هده الدلالات من المقاصد والنوايا والغايات التي تصاحب الفعل وتتحدد بالقيم التي توجهه وغالبا ما يتم النفاذ إلى هذه الدلالات بواسطة فعل التأويل، هذا التصور دافع عنه " جول مونرو"  وهو أهم نقاد الاتجاه الوضعي ويعتقد أن الفهم هو إدراك لدلالة معيشية تعطانا كتجربة بديهية ومن هنا، فهدف المنهج التفهمي هو ادراك دلالات الأفعال عن طريق ربطها بالمقاصد والنوايا الداتية لأصحابها والفاعلين لها ولذلك فهو منهج يعتمد حسب مونرو على البداهة والحدس، فنحن نفهم بعض الحوادث بالبداهة، كأن ندرك أن الشخص يكون غاضبا، حينما يتم الاعتداء عليه، أو نتبين رفضه من خلال قسماته الجسدية، فما يكون بديهيا يكون واضحا ويحتم ادراكه بشكل مباشر دون الحاجة إلى تفسيره، إن فعل الفهم حسب مونرو يشكل رؤية نافدة تدرك الظاهرة الانسانية، كظاهرة وجودية ووجدانية يتعين تفهمها والكشف عن المعاني والدلالات التي نستخلصها منها على نحو مباشر دون الاعتماد على أية استدلالات أو تجارب استقرائية من شأنها أن تضعف الظاهرة وتعمل على تقويضها ومن زاوية توفيقية بين دعاة التفسير والفهم في مجال العلوم الانسانية يرى " غاستون غرانجي" أن فعل العقل في الظواهر الانسانية، يتراوح بين منهجين أساسيين هما: التفسير الذي يستهدف الكشف عن العلاقات الثابتة التي تربط بين الوقائع الإنسانية والفهم الذي يرمي إلى حدس الإحساس وتأويل الفعل الإنساني للكشف عن معانيه ودلالاته ولهذا يبدو أنهما منهجان متكاملان لا يمكن الاقتصار على أحدهما دون الاخر في دراسة الظواهر الانسانية  والرهان الصعب يتمثل في كيفية المزاوجة بينهما على نحو فعال، يمكن من فهم حقيقي للظاهرة الانسانية في أبعادها المختلفة.

وبالجملة ، ليس الانسان آلة ميكانيكية، يمكن التنبؤ بردود أفعالها واستجاباتها بدقة، بل إنه ذات واعية مريدة وحرة تستعصي على التكميم والتحليل، لكن هذا لا يعني استحالة معرفة هذه الظاهرة والتي تفترض المنهجين معا ( التفسير والفهم) في سبيل فهم متكامل ومعقول.
شاركه

عن Mehdi

هذا النص هو مثال لنص يمكن ان يستبدل في نفس المساحة ايضا يمكنك زيارة مدونة مدون محترف لمزيد من تحميل قوالب بلوجر.
    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات :

إرسال تعليق