‪نمودج لتحليل سؤال فلسفي مفتوح



نموذج لتحليل سؤال فلسفي مفتوح.

هل قيمة الشخص تتجلى في الصداقة مع الغير؟


   يبدو من خلال القراءة المتأنية للسؤال، أنه يحفل بمفاهيم فلسفية (القيمة،الشخص،الصداقة،الغير) وهي كلها مفاهيم فلسفية تحيل على المجال الإشكالي للوضع البشري، ويتطرق السؤال بالتحديد لمفهومي الشخص والغير، ويعالج قضية فلسفية مركبة، تتحدث عن " قيمة الشخص" في علاقته بالغير من خلال التركيز على النمودج الإيجابي لهذه العلاقة. وفي هذا الإطار بمكنتنا إعادة صياغة إشكال السؤال وفق الصيغىة الآتية: أين تتجلى قيمة الشخص، هل في علاقته الاجتماعية مع الغير أم في كونه فردا معزولا عن الآخرين؟ كيف يمكن النظر إلى الشخص (الغير) هل باعتباره غاية أم وسيلة؟ كيف تصبح الصداقة كنموذج إيجابي للعلاقة مع الغير تعبيرا عن قيمة الشخص؟.
  بداية نرى ضرورة الوقوف على تحليل بنية السؤال وأهم مكوناته: يبدأ السؤال بأداة استفهام "هل" وهي تخيرية بين قضيتين متقابلتين، قد يصرح بهما معا وقد يصرح بأحدهما، ويتم اضمار الأخرى، كما هو الحال في السؤال المطروح علينا. إن الطابع الإستفهامي لهذه الأداة يفترض اجابتين محتملتين: نعم أو لا. الإجابة الأولى تعتبر قيمة الشخص اجتماعية مرتبطة بالصداقة (نعم) والإجابة الثانية تعتبر قيمة الشخص معزولة (لا). وإذا أسقطنا أداة الإستفهام نكاد نحصل على أطروحة ضمنية مضمونها أن قيمة الشخص تتجلى في العلاقة الإيجابية مع الغير. وهي الأطروحة التي سنحاول تطويرها من خلال الوقوف على المفاهيم المركزية الناظمة لها. بدء بمفهوم القيمة وهي الطابع الخاص المميز لشيء معين من خلال سمات تفرده عن غيره. ثم نجد مفهوم الشخص الذي يشير إلى الذات المجردة للإنسان ككائن عاقل حر ومريد ومسؤول عن أفعاله وله قيمة أخلاقية ومن جهة أخرى يحضر مفهوم الصداقة كعلاقة إيجابية مع الطرف الآخر والقائمة على المحبة والتعاون والإحترام وضدها الصراع والغرابة.أما الغير فيعرفه "سارتر" بأنه *الأنا الذي ليس أنا* بما يحمله من تشابه واختلاف في نفس الوقت. والحق أن العلاقة الجامعة بين المفاهيم السابقة هي علاقة تكامل وترابط، مادام كل مفهوم يؤدي إلى الآخر. بالعودة مجددا إلى السؤال، فإننا نجده يتضمن تصورا فلسفيا يرى أن قيمة الشخص تتجلى في العلاقة الإيجابية مع الغير. وهذا التصور نجده عند فيلسوف الأخلاق * ايمانويل كانط * (1724-1804) الذي يذهب إلى حد التأكيد أن أهمية الشخص تكمن في كونه ذات لعقل عملي أخلاقي لذلك ينبغي النظر إليه كغاية في ذاته لا كوسيلة، وإن قيمة الشخص عند * كانط* تتحدد انطلاقا من الواجب الأخلاقي الذي يتأسس على الاحترام ومعاملة الإنسان كغاية في ذاته واحترام الكرامة الإنسانية فيه ويشدد *كانط* أن الصداقة هي النموذج الأنبل والأسمى التي يتحقق فيها الاحترام، لأنها تقوم على الفضيلة وأساسها الارادة الخيرة والاحترام المتبادل. فالصداقة باعتبارها واجبا أخلاقيا، تشترط واجبا أخلاقيا، تشترط وجود المساواة وعلاقة التكافؤ، وهي أيضا نقطة تماس بين الحب والاحترام، تقوم على الحب بما تفرضه من اعجاب واقتراب، وعلى الاحترام بما يفرضه من تقدير وابتعاد، وهدا ما يمنح الانسان التوازن وعدم الافراط سواء في الاحترام أو الحب .
يميز كانط بين نوعين من الصداقة، صداقة قلبية و صداقة عقلية، الأولى هي صداقة كاملة و مثالية، مستحيلة التحقق في الواقع، إنها صداقة جمالية كما يسميها كانط (Amitié esthétique)، إنها صداقة قلبية، لأنها لن تتحقق إلا حين تتساوى و تتعادل و تتناسب جميع مشاعر الحب و الاحترام بين شخصين، و بما أن لا أحد يستطيع أن يقيس هذه المشاعر القلبية العميقة إذن فهذه الصداقة تصبح مجرد مثال للتأمل أما الصداقة العقلية،فهي تنطلق من اعتبار أنه إذا كانت الصداقة كنموذج قلبي لا يمكن بلوغها، فعلى الأقل من الواجب الذي يفرضه العقل على كل إنسان، السعي إلى بلوغها، لذلك فهذه الصداقة تتأسس على ثقة بين شخصين يجمع بينهما حب الخير وفقا لما يمليه الواجب الأخلاقي، أي أن هذه الصداقة هي صداقة أخلاقية (Amitié Morale) و تنتج عن توازن في واجب الحب وواجب الاحترام.
نستنج مما سلف، فالصداقة هنا ليست مثالا بل مجرد فكرة للعقل العملي ( مبدأ للتصرف)، لكن ليس بالمعنى البراغماتي للكلمة، فالصداقة تقوم على مبدأ أخلاقي عقلي خالص.
   تتجسد القيمة المركزية لأطروحة السؤال في كونها دفاع مستميت عن العلاقة الايجابيبة بين الشخص والغير، باعتبارهما ذوات عاقلة تستحق كامل التقدير والاحترام. غير أن هذا التصور كبقية التصورات الفلسفية يؤخد منه ويرد عليه، إذا كانت الصداقة هي حالة حب و احترام متبادل بين الأنا و الغير بالتساوي، أي أنها علاقة ندية و أخذ و عطاء، فإن هنالك أشكالا للعلاقة مع الغير تتجاوز هذا المستوى نحو مستوى أسمى هو مستوى العطاء دون انتظار المقابل، أي مستوى تغليب مصلحة الآخر على مصلحة الذات، و هذا ما يسمى بالإيثار أو الغيرية ( Altruisme ). وفي هدا الصدد يحضر تصور الفلسفة الوضعية الذي يمثله " أوغست كونت" أن العلاقة مع الغير إذا تأسست على الغيرية ونكران الذات و التضحية من أجل الغير فإن ذلك يؤدي إلى ترسيخ مشاعر التعاطف و المحبة بين الناس فتحقق الإنسانية غاياتها الكبرى وهي نشر قيم العقل و العلم و التضامن و الاستقرار مما سيسمح بتطوير الوجود البشري . فالغيرية فضيلة أخلاقية وقيمة مثلى يتجاوز فيها الإنسان أنانيته وذاتيته وينتصر على غريزته فيحيىا من أجل غيره وبذلك تنشأ بين الأنا و الغير علاقة نبيلة تقوم على نكران الذات و التضحية .كما يؤكد أرسطو يؤكد أن الصداقة ضرورة بشرية لا يمكن الاستغناء عنها لأي كان كيفما كان فالإنسان في حاجة ماسة إلى صديق يشاركه أحزانه و أفراحه وإذا كانت الصداقة الحقيقية هي الصداقة المبنية على المحبة المتبادلة وعلى الفضيلة الأخلاقية مما يجعلها غاية وليست مجرد وسيلة لتحقيق المنفعة أو المصلحة مما يجعل هذه الصداقة تساهم في نشر القيم الأخلاقية السامية بين الأفراد . فإن اوغست كونت يؤكد أن الإنسانية تقوم على الغيرية وتجاوز ذاتيته ونكرانها من أجل التضحية من أجل الغير وبذلك فالعلاقة مع الغير ليست مجرد علاقة صراع ومواجهة ونفي وتنافر بل قد تقوم كذلك على الاعتراف المتبادل و التواصل و الاحترام و الصداقة بل و التضحية من أجل الآخر مما يجعل العلاقة مع الغير متعددة الأبعاد متنوعة ومختلفة وغنية لا يمكن اختزالهما في شكل دون آخر لأن الإنسان ظاهرة متعددة الأبعاد . فإلى أي حد يمكن للعلاقة مع الغير أن تتأسس على المحبة و الاعتراف المتبادل و التضحية ونكران الذات في ظل مجتمع الاستهلاك وسيادة العقل الحسابي؟ لهذا لا نستغرب إن وجدنا " *ألكسندر كوجيف* يتصور بأن العلاقة مع الغير قائمة على الصراع.
   بناء على ما سبق، يمكن القول  إن أكبر خطر يهدد حضارة من الحضارات بالانقراض أو على الأقل التخلف، هو أن توجد معزولة عن الحضارات الأخرى. وإن الموقف الذي يجب اتخاذه من الغير ليس هو موقف الإقصاء، لأن هذا الغير هو إنسان قبل كل شيء وهو عنصر ثقافي، لهذا لابد من فسح المجال للحوار والتسامح والاحترام والحق في الاختلاف حتى نضمن حدا أدنى من التعايش ضمن الحفاظ على استقلالية الأنا والغير .


شاركه

عن Mehdi

هذا النص هو مثال لنص يمكن ان يستبدل في نفس المساحة ايضا يمكنك زيارة مدونة مدون محترف لمزيد من تحميل قوالب بلوجر.
    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات :

إرسال تعليق