جدع مشترك : مجزوءة : الفلسفة (جميع المحاور)



انجاز:محمد الشاوي

مجزوءة : الفلسفة

مستوى الجذع المشترك (جميع الشعب)
تقديم المجزوءة :
يذهب البعض إلى انه لا اغرب من أسئلة الفلسفة ولا أكثر عبثا من مجالات بحثها, إن هذا التنائي عن فعل التفلسف لا يمكن أن يخفي انه أكثر الحالات الفكرية أصالة لدى الإنسان, والتي وان كانت تخفت بسبب القدرة الهائلة التي للسيرورات الاجتماعية على تقييد التفكير الحر الا انها تطفو متى كنا بإزاء الأسئلة الأكثر إلحاحا على الإنسان: لم الوجود؟ وما معناه؟ وما غايته؟

أسئلة طرحت ما كان الإنسان, ألا أن طرقها تبعا لمنهج عقلي لا يركن إلى التفسيرات الساذجة واللاعقلانية لم يبدأ بشكل فعلي إلا مع المفكرين اليونان والذين شرعوا في محاولة معرفة ماهية الوجود وافتتحوا بذلك طرقا للتفكير ومسارات للسؤال لازالت فاعلة في الفكر الإنساني إلى اليوم.

إن نشأة الفلسفة في زمان ومكان بعينه هو قول لا يحقق الإجماع المطلق, إلا انه يبقى مع ذلك القول الأرجح بحسب أكثر مؤرخي الفلسفة, وهو ما يحمل على التساؤل عن ما جعل مجالا زمكانيا بعينه يختص بهذا الحدث الاستثنائي.

هذا وان تطور الفلسفة لم يتوقف عند نموذج نظري خاص ولا اقتصر على منهج فكري بعينه, فقد شهد تاريخ الفلسفة تحولات هائلة في الاهتمامات والمناهج وقطائع في مبادئ الفكر وأنماطه وهو ما يحمل على تقصي مظاهر التطور في تاريخ الفلسفة ومراحله.

إنه ورغم التغير المستمر، إلا أن التفكير الفلسفي كان وفيا دوما لنفس الغايات وحركته دوما نفس الدوافع, فالغرابة الأصلية التي للعالم تحمل الفيلسوف على "الدهشة" التي تشكل دافعا مستمرا ل "البحث عن الحقيقة" وعدم الارتكان لحقيقة نهائية وذلك بقوة "الشك" والاستعداد الدائم لزعزعة البداهات وتحرير العقل من الوثوقية والدوغمائية.

إن الوحدة على مستوى الدوافع والغايات تناظرها وحدة على مستوى الأدوات ونمط الاشتغال, فالسؤال كان دائما هو منطلق التفكير الفلسفي ومنبعه, والمفهوم أداته والحجة العقلية مرجع الفصل في صدق قول فلسفي من كذبه والقيم هي المطلب الأقصى الفلسفة ومبرر أساسي من مبررات وجودها.


المحور الأول: نشأة الفلسفة

1- الإطار الزماني والمكاني للنشأة :

يكاد الإجماع يتحقق حول الإطار الزمكاني لنشأة الفلسفة, فقد كانت ارض اليونان هي جغرافية هذا الحدث الهائل وكان القرن السادس قبل الميلاد هو زمان إرهاصاته الأولى, والتي بدأت لما اعتبر طاليس الملطي أن الماء هو مبدأ المركبات الجسمانية فقد دشن هو وانكسمندر وانكسيمانس وغيرهم من الحكماء الطبيعيين نوعا جديدا من البحث يهدف إلى تحديد المبدأ الواحد الذي يمكن أن ترجع إليه الأشياء الكثيرة، لقد بحثوا في أصل الكون.

لكن لم هذا المكان وهذا الزمان بعينه وليس آخر؟ هل يمكن تفسير نشأة الفلسفة عبر تحديد شروطها الأساسية؟ أم أنها تبقى معجزة إغريقية غير قابلة للتفسير؟

لقد اجتمعت لليونان مجموعة من الشروط التي قد تكون ساهمت في اختصاصها بنشأة الفلسفة، فهي تتوفر أولا على ذلك الموقع الجغرافي الذي ينهل من حضارات البحر الأبيض المتوسط واسيا الصغرى،هذا بالإضافة إلى علاقات اليونانيين التجارية والتي مكنتهم من التي وسعت تلاقح حضارتهم مع الحضارات المجاورة. هكذا أفاد اليونان من عمارة الفراعنة وفلك البابليين وعلاقات الكريتيين التجارية...

لكن هل يمكن اعتبار هذه الشروط كافية لنشأة الفلسفة، ألا يجب توفر شروط أكثر حسما من تلك الجغرافية والتجارية...؟


2- فعل النشأة :
بالفعل لقد تضافرت مجموعة من الشروط السياسية والاجتماعية والفكرية وحتى القيمية, والتي مكنتها من الاختصاص بهذا الحدث الفريد:

لقد فرضت الظروف الجغرافية والأمنية الصعبة للتنقل في اليونان على كل مدينة يونانية تحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي, وهو ما أدى إلى نشوء ظاهرة "المدينة-الدولة" والتي كانت لها نتائج حاسمة على الحياة السياسية في اليونان، فلقد أصبح الشأن السياسي في "المدينة" شانا عاما يشارك فيه جميع المواطنين عبر المناقشات التي كانت تدور في ساحة "الاغورا" معبرة بذلك عن المفهوم الجديد للحياة السياسية: أي "الديموقراطية".

وانعكست هذه الحرية السياسية على الحياة الفكرية في اليونان, فجراء المناظرات العمومية حول شؤون المدينة نشا خطاب حجاجي أسس لخطاب "اللوغوس" بما هو خطاب عقلاني يرفض تلك "الحكم" المكثفة والغامضة التي ترفض تبرير نفسها وتعمل على حمل المستمع على تبنيها بشكل مباشر وذلك بالمراهنة على غرائز الناس عبر مداعبتها من خلال الحكاية والسرد وهو ما يعتمده الخطاب الأسطوري أو "الميثوس".

لقد ساعد على هذا الانتقال من "الميتوس" إلى "اللوغوس" انتشار الكتابة التي عرفها الإغريق عن طريق الفينيقيين, إلا أن اليونان تميزوا بفهم خاص للحكمة فلقد نظروا إليها كغاية في ذاتها وليس كوسيلة كما فهمتها الشعوب القديمة،وهو ما تحمله دلالة كلمة "فلسفة" كمحبة للحكمة, وهو ما جعل اليونان يطرقون آفاقا فكرية جديدة تماما/وليس التوقف عند سد الحاجات العملية.

هذا وان التجريد والنظرة الكلية للأشياء بوصفها خصائص فكرية متميزة جعلت اليونان اقدر على تدشين هذا النوع الخاص من البحوث الفلسفية، وما فكرة طاليس عن أصل الكون إلا تعبير عن ذلك, فقد تعلقت الشعوب القديمة بالمشخص فيما استطاع اليونان القبض على المجرد, فعملوا عن طريق أبحاثهم حول أصل الكون هذه على تحديد الثابت في المتغير والواحد في المتعدد.

هذا وان النظام القيمي لدى اليونان والذي يعلي من قيمة الجماعي على الفردي ويقدر الانجاز الجماعي والالتزام باختيارات الجماعة فساعد على نشأة الديموقراطية السياسية بآثارها الفكرية الحاسمة, كما أن تقدير الإغريق للحياة الفكرية وازدرائهم للحياة العملية على نشوء طبقة متفرغة للعمل الفكري.

تركيب : 

إن نشأة الفلسفة إنما تفهم من خلال تحديد شروطها الأساسية, وهو ما لا ينفي أنه وان كانت حدثا تاريخيا قابلا للتفسير إلا أنها حدث استثنائي،فلقد وجدت بذور أولى للتفكير الفلسفي لدى الحضارات السابقة لليونان إلا أنها لم تذهب حتى النهاية،هكذا فالتاريخ لم يعرف التفلسف كنظر عقلي شامل إلا مع الإغريق في القرن السادس قبل الميلاد.


المحور الثاني : لحظات أساسية في تطور الفلسفة
1- لحظة الفلسفة اليونانية:
لقد كانت الاهتمامات الأساسية للبحث الفلسفة في بدايته موجهة إلى الطبيعة, وهو ما استمر مع "فيتاغورس" مثلا حيث كان يرى أن العالم "عدد ونغم"، وكان "فيتاغورس" يختص بمذهب ديني يعارض الديني الشعبي لليونان آنذاك, وهو في ذلك مثل معظم الفلاسفة من حيث احتقارهم للممارسات والطقوس والاعتقادات الخرافية لمجتمعهم، فهذا هيراقليطس يشبه من يحاولون تطهير أنفسهم بطلاء أجسادهم بالدم بأنهم مثل من يغسل رجليه من الطين بان يغمسهما في الوحل،إدانة منه إلى اللاعقلانية والجهل.

في خضم هذه البحوث الطبيعية والخلافات بين الفلاسفة بشأنها ظهرت جماعة من محترفي الفكر يرون انه لا طائل من هذه المناقشات التي لا تتوصل إلى حل نهائي أبدا, وهو ما يدل على استحالة التوصل إلى الحقيقة المطلقة وبالتالي ضرورة الاكتفاء بالرأي المفيد،فالمفيد بالنسبة لشخص هو حقيقته الخاصة ولا فائدة من تكذيبه لأنه لا شيء يضمن أن معرفة أفضل من معرفة، فـ "الإنسان هو مقياس كل شيء" كما يقول "بروتاجوراس".

لقد خلق السفسطائيون حيرة فكرية مسلحين في ذلك بقدرتهم الهائلة على الجدل،ولذلك اعتبرهم "سقراط"(470 ق.م) أعداء للحقيقة وعمل على تفنيد أطروحاتهم. وعرف سقراط بالتهكم كأداة لبيان جهل من يعتبرون انفسهم حكماء, فالحكمة من اختصاص الآلهة أما البشر فتتمثل اشرف غاياتهم في محبتها فقط , وهو ما تجسده قولته الشهيرة "كل ما اعرفه أنني لا اعرف شيئا". ويربط سقراط بين المعرفة والفضيلة, فالإنسان يرتكب الأخطاء لأنه يجهل الفعل الصائب،فكان الوصول إلى الخير مرتبطا عنده باكتساب المعرفة. كما عمل سقراط على توسيع البحث الفلسفي ليشمل إشكاليات الوجود الإنساني وعدم قصره على الطبيعة.

لقد أكسبت المناقشات العلنية والتي أتباعا وتلاميذ كان أشهرهم أفلاطون(428 ق.م)،والذي خلد أستاذه بتدوين أفكاره في كتابات على شكل محاورات. وقد أسس أفلاطون "أكاديمية" كانت مهتمة بتدريب عقول اليونانيين على الانتقال من الانشغال بالتقلبات المتغيرة لعالم التجربة اليومية وتوجيهها نحو الإطار الثابت الذي يكمن وراء هذه التغيرات،والذي يتمثل حسب أفلاطون في عالم المثل الذي يمثل الكامل والثابت والحقيقي في مقابل الواقع الذي يمثل الصائر والناقص والوهمي،هذا وقدم أفلاطون نظرية سياسية لنظام الحكم باسم "المدينة الفاضلة" والتي عرضها لها في محاورة بعنوان "الجمهورية"،وهو نظام يتجاوز أنظمة حكم يراها ناقصة.

إن أشهر تلاميذ أفلاطون على الإطلاق هو أرسطو المولود في اسطاغيرا سنة 384 ق.م ويعتبر ذروة الفلسفة اليونانية وآخر فلاسفتها العظام حث أعقبته في أوروبا حالة طويلة من الجمود. وتنوعت إسهامات أرسطو تنوعا شديدا بين الفيزياء وعلم الأحياء والفلك والأخلاق والسياسة...لكن "المنطق" يعتبر" أهم انجازاته على الإطلاق.فلقد اعتبر أداة التفكير البرهاني الدقيق على مدى قرون طويلة.


2- لحظة الفلسفة الإسلامية :
تطلق الفلسفة الإسلامية على مجموع التيارات الفلسفية التي نشأت في بلاد الإسلام على اثر تفاعل مفكري الإسلام مع الإرث الفلسفي اليوناني منقولا إلى العربية من الترجمات السريانية والعبرانية, وتمت معظم الترجمات إلى العربية على يد الكهنة المسيحيون في "بيت الحكمة" الذي أسسه الخليفة العباسي المأمون سنة 217ه مستجلبا له علوم اليونانيين من البلاد البعيدة موفدا في ذلك الرسل إلى ملوك هذه البلاد التي تزخر بتلك العلوم. لكن هذا لا يعني أن الفلسفة الإسلامية هي مجرد نسخة من تلك اليونانية, فللفلسفة الإسلامية خصائصها التي تميزها والتي يمكن رصدها خلال تتبع آراء بعض أهم الفلاسفة المسلمين في الفلسفة،كيف يعرفونها وأية غايات يرونها غايات لها:

- الكندي(801-867): ويرى أن اشرف العلوم وأعلاها منزلة على الإطلاق هي الفلسفة وان اشرف مراتب الفلسفة هي الفلسفة الأولى والتي تعني عنده علم الحق الأول (الله), هكذا فاشرف ما يمكن أن يقوم به الفيلسوف هو أن يسعى إلى معرفة الله والتي تؤدي إلى معرفة ما عداه لأنه هو علته(سبب ما عداه من الموجودات) ولان علم العلة (السبب) اشرف من علم المعلول (النتيجة). هذا وان القصد من الفلسفة هو علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان, ولهذا كان جل جهده هو لمعرفة الله فيعرف بذلك مخلوقاته.

- الفارابي (872-950): ويميز في الحق(الحقيقة) بين ما يكون "علما أولا" (ما لا يحتاج إلى برهان من قبيل الحقائق الدينية) وما لا يكون إلا ب "برهان" (من قبيل الحقائق الفلسفية). هذا وانه لما كان للفلسفة شقين عملي(يهتم بالأخلاق والسياسة..) ونظري(الميتافيزيقا..) والملة الفاضلة(الإسلام) هي في ذلك مثل الفلسفة, لما كان ذلك كذلك فان الشق العملي للفلسفة يبرهن على ما يعرف بداهة(بدون حاجة إلى برهان) في الشق العملي للإسلام ومثل ذلك في الشق النظري لكل من الفلسفة والدين. هكذا تعطي الفلسفة براهين ما تحتوي عليه الملة الفاضلة(الإسلام).

- ابن رشد(980-1037): وعنده أن الفلسفة ليست أكثر من معرفة الخالق في مخلوقاته, فتأمل الفيلسوف للموجودات ليس إلا تأملا لمبدعها (أي الله) من حيث أنها تدل عليه. وعمل الفلسفة هذا لا يخرج عن ما يحث عليه الشرع من تأمل العالم والاعتبار به ومعرفة الله من طريقه، ونجد مثل ذلك في آيات عديدة مثل: "فاعتبروا يا أولي الأبصار" و"الم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء". هكذا فالفلسفة لا تخالف الدين لا في غرضها,وهو معرفة الله،ولا في منهجها أي معرفة الخالق من طريق معرفة مخلوقاته وهو القياس, أي معرفة المجهول من طريق معرفة المعلوم.

3- لحظة الفلسفة الحديثة :

لا تعرف الفلسفة لا بمكان نشأتها ولا بزمانه, إنما تعرف بوصفها نمطا حضاريا مخصوص يتنافى ونمط التقليد, ولذلك فهي انفتاح دائم يتحرك بمرجعية الشك في ما هو قائم ونقده. أن الحداثة هي استعداد دائم لإعادة النظر في الأشياء.

- روني ديكارت(1596-1650): ويعتبر أبا للفلسفة الحديثة، فقطع مع كل التقليد الذي سبقه والذي كان مغرقا في التقليد, ومن هنا تأتي مهمته في رفع القداسة عن التراث وبناء العلم على أسس يقينية, وذلك بواسطة "الشك" كأداة منهجية ترفض المعارف المعطاة بشكل قبلي, وهو ما يؤدي إلى التوصل إلى حقيقة يقينية أولى: "أنا أفكر إذن أنا موجود" وهو ما يعرف بالكوجيطو، هذا الأخير هو تنصيب للعقل بوصفه المحك الوحيد المقبول لاختبار الأفكار وقبولها كحقائق.

هذا وإن الوصول إلى الحقيقة مهمة ذاتية, وعدم وصول الجميع إليها لا يعني تفاوت الناس في امتلاكهم للقدرة العقلية ف"العقل اعدل الأشياء قسمة بين الناس" حسب ديكارت. إن السبب في ذلك هو اختلاف المناهج وليس اختلاف العقول, ومن هنا يقترح "ديكارت" المنهج الذي يراه مناسبا ويتضمن أربع قواعد: الوضوح والتميز- والتقسيم- والترتيب- والمراجعة.

- ايمانويل كانط(1724-1804): يقول الفيلسوف الألماني "إن عصرنا ينفرد بالنقد الذي يتعين أن يخضع له كل شيء", ومن هنا تصوره لمهمته الفلسفية بوصفها نقدية بالأساس, وهو ما قد كان بالفعل, فقد اخضع كانط كل شيء للنقد ابتداء بالعقل, ومن هنا اعتباره ممثلا ل"الفلسفة النقدية". ويعتبر النقد الذي مارسه بصدد المسالة الأخلاقية احد التجليات المهمة لروح الحداثة عنده, فالأخلاق عنده لا تستمد من أية مرجعية خارجية, سواء كانت قانونية أو اجتماعية أو دينية.... إن المشرع الأخلاقي الوحيد عنده هو العقل الذي يأمر بالواجبات الأخلاقية انطلاقا من "الأمر المطلق", والذي يؤسس لفعل الأخلاقي لا يهدف لشيء آخر غير الفعل الأخلاقي نفسه.

- فريديريك هيجل(1770-1831): يعتبر الفيلسوف الألماني أعظم الفلاسفة المحدثين, ويعرف بفلسفته المثالية والتي تنظر إلى العالم الواقعي بوصفه انعكاسا للحركة الجدلية للروح/الفكر. ويرى هيجل أن "الذاتية" هي مبدأ العالم الحديث،هذا المبدأ الذي يعطي للفرد وجودا مستقلا "فردانية" تمكنه من "حق النقد" وبالتالي "استقلال" الفعل والسلوك. يمكن القول مع هيجل إذن أن "حق الحرية الذاتية هي النقطة المركزية التي تشير إلى الاختلاف بين الأزمنة الحديثة وبين العهد القديم".

4- لحظة الفلسفة المعاصرة:
لقد أسست الفلسفة الحديثة لوعي فلسفي واثق, فشكل العقل أساسا موثوقا للحقيقة وكان الإنسان مصدرا لها بوصفه كائنا عاقلا ومنه كانت الثقة في مستقبله بوصفه قادرا على الفعل والتأثير في العالم بل والتحكم فيه. لكن الفلسفة المعاصرة كانت اقل ثقة, شككت في العقل بوصفه أساسا نزيها للحقيقة فاستعصت الثقة في الإنسان، وقد مثل هذه الروح بداية ثلاثي ما يعرف ب"مدرسة الارتياب" الذين اتخذوا لهم مهمة أساسية تتمثل في فضح الأقنعة وكشف الأوهام:

- كارل ماركس(فيلسوف الماني1818-1883): يمثل مفهوم "الايديولوجيا" لديه القناع الذي نازله بضراوة, وتعني الايديولوجيا في معناها العام ذلك النسق الفكري الذي يشمل مجموعة من الأفكار والاعتقادات والتصورات الخاصة بمجتمع ما والتي تحمل تصورا معينا عن العالم, ويرى "ماركس" إنها وسيلة طبقة مهيمنة لتشويه الواقع في أعين طبقة مهيمن عليها وتبرير استمرار واقع الهيمنة بالتالي. إن الايديولوجيا وعي, لكنها وعي زائف.

- فريديريك نيتشه(فيلسوف الماني1844-1900): لقد عمل "نيتشه" على كشف الزيف والوهم على عدة مستويات, كانت الأخلاق أهمها, فقد عمل على كشف تلك النزوعات الغريزية العميقة وراء ما يصطلح عليه ب"الأخلاق", فهي حسبه ليست إلا خداعا يمارسه أصحاب "أخلاق العبيد" في السعي وراء "إرادة القوة", فيما يسعى إليها أصحاب "أخلاق السادة" عبر سبل مباشرة وحاسمة وغير هيابة, ومن هنا كانت أخلاقهم تقع فيما وراء الخير والشر.

- سيغموند فرويد(محلل نفسي نمساوي1856-1939): لقد كانت مهمة فرويد الأساسية متمثلة في فضح "اللاوعي" وجعله مرئيا، فقد رآه المكون الأساسي للنفس الإنسانية فيما لا يمثل الوعي إلا جزء صغيرا منها،وتدل على وجود الوعي وقوته عدة مؤشرات منها الحلم الذي يعبر عن أكثر الرغبات الإنسانية اللاشعورية إلحاحا والتي تتعرض للكبت على مستوى الوعي لتظهر في أشكال لاواعية, ليس الحلم إلا احدها, فزلات اللسان تعبر عنها، كما تعبر عنها العديد من الاضطرابات النفسية كالهيستريا وغيرها.


المحور الثالث : لماذا التفلسف؟

1- التفلسف كدهشة: يصر الفلاسفة على أن ما يرفع الإنسان عن مستوى الوجود الطبيعي هو فكره وقدرته على الاندهاش بالتالي, فهو لا يكتفي بالعيش في العالم إنما يسعى إلى فهمه وهو إذ ذاك يتفلسف, فالفلسفة تبدأ بالدهشة كما قال "أفلاطون" و"أرسطو". وفي نفس الاتجاه يؤكد الفيلسوف الألماني "ارثور شوبنهاور"(1788-1860) على أن غرابة العالم بالنسبة للإنسان تكون اقل كلما كانت قدراته العقلية هزيلة، أما قوى العقل فلا يتوقف عن التعرف على الغرابة في العالم حتى وان كانت مألوفة بالنسبة للبقية، وتعزز من هذا الشعور التجارب المتعلقة بالموت والألم وبؤس الحياة. هذا وتتميز "الدهشة الفلسفية" عن "الدهشة العادية" حسب "جون بيير فرنان" في أن الأولى لاتتوقف عند التعجب من الشيء بل تتجاوزه إلى الاستفهام والتساؤل والاستشكال.

2- التفلسف كبحث عن الحقيقة: يشي هذا العنوان بنفس ما يحيل إليه المعنى الاشتقاقي لكلمة "فيلوصوفيا":أي أن "جوهر الفلسفة هو في البحث عن الحقيقة لا في امتلاكها" حسب ما يراه الفيلسوف الألماني "كارل ياسبرز"(1883-1969)،ومن هنا فان البحث عن الحقيقة في دلالته الفلسفية يعني عدم التوقف عند جواب محدد كما يسعى إلى ذلك العلم. إن كل جواب يصبح بدوره سؤالا جديدا ف"الأسئلة في الفلسفة أكثر أهمية من الأجوبة".

3- التفلسف كشك:
يرفض الفيلسوف كل أشكال الوثوقية والتعصب للرأي وللحقيقة الواحدة, فالعقل الدوغمائي يمنع نفسه من الوصول إلى الحقيقة، ومنه فان "ديكارت" يرى ضرورة الشك في جميع الأشياء التي تخالطها شبهة عدم اليقين, لكن الشك هنا ليس مقصودا لذاته إنما هو شك منهجي يبغي الوصول إلى الحقيقة. إن فعل التفلسف حسب الفيلسوف الألماني "ادموند هوسرل" (1883-1959) يقضي بتقويض كل المعارف المسلم بها مرة واحدة على الأقل وإعادة بنائها من جديد, وهو ما باشره "ديكارت" بالفعل سعيا منه لبناء العلم على أسس يقينية.

4- التفلسف كعقلنة: يطمح كل فيلسوف إلى تجاوز الواقع المعطى في غموضه واستغلاقه وعدم انتظامه إلى بناء حقيقته المعقولة, ويمكن أن يتخذ الإنسان إزاء هذه المهمة, حسب الفيلسوف الانكليزي "برتراند راسل" (1872-1950)،احد موقفين: فإما أن يقبل التعاليم التي يتلقاها من الذين يدعون أنهم يمتلكون الحقيقة أو أن يتحمل مسؤولية التفكير في العالم وفي نفسه بنفسه، وهذا هو طريق العلم والفلسفة.


تركيب:
 تدفع الدهشة الفلسفية العقل إلى البحث عن الحقيقة مأخوذا بإغراء السؤال الذي لا ينفك عن الحضور المشاكس, الرافض للأجوبة القاطعة والنهائية والتي لا تصمد أمام الشك الذي يبثه في ثنايا الوثوقية والدوغمائية, هذا الشك الذي لا يعبر إلا عن الإصرار على فهم عقلاني للعالم.

المحور الرابع: معالم التفكير الفلسفي ونمط اشتغاله

1. السؤال الفلسفي : لم تشتهر الفلسفة بشيء بقدر اشتهارها بالسؤال, ويأخذ السؤال الفلسفي دلالة النقد بما هو عدم تسليم بأية قضية دون فحصها من وجوهها المختلفة. ويرى "برتراند راسل" أن الفلسفة لا تستحق أن تدرس إلا لقيمة الأسئلة التي تطرحها, فالأسئلة هي مناط توسيع تصورات الإنسان وإثراء خياله وتقليل ثقته الدوغمائية. هكذا فالسؤال بما هو بحث هو التقصي على نحو جذري ونبش في الأعماق, انه رغبة الفكر التي لا تفتر.

2. المفهوم الفلسفي : يقرر "جيل دولوز"(فيلسوف فرنسي1925-1995) أن الفلسفة هي بالتعريف إبداع المفاهيم, وهي على ذلك المعرفة من خلال المفاهيم المحضة المجردة عن أي مضمون حسي, لكن هذا لا يمنع أن إبداع المفاهيم يلتقي مع التجربة والحدس على نحو أولي. وإذا كانت الفلسفة هي إبداع المفاهيم فان الفيلسوف هو صديق المفهوم،يعرف من خلاله ويعرف به كما الكوجيطو عند ديكارت وإرادة القوة عند نيتشه...

3. الحجاج : يعتبر المنطق ميزان الحق وأداة الباحث عنه, ومنه المكانة التي للحجاج في الفلسفة ويتميز في انه يأخذ موقف المحاور في عين الاعتبار وذلك على عكس البرهنة التي تهدف إلى إقامة ترابط ضروري بين المقدمات والنتائج دون اعتبار لمواقف الفرد،وهو ما يقيد حرية الفكر ويعطل إمكانياته،كما أن التعويل الكبير للخطابة على موقف الفرد قد يحولها إلى محض خطاب لاعقلاني يتوجه إلى غرائز الناس،وبينهما يقف الحجاج كموقف عقلاني حر.

4. النسقية : النسق هو نظام يتألف من عناصر تخضع في علاقاتها لبنية عامة تتحكم فيها ضوابط وقوانين، والنسق في علاقته بالفلسفة هو مجموعة أفكار فلسفية متراصة منطقيا،حيث تفسر أجزاؤها الأخيرة بأجزائها الأولى والتي هي مبادئ النسق الفلسفي. هكذا فالنسق حسب "ايمانويل كانط" هو وحدة معارف مختلفة خاضعة لفكرة،وهذا الأخيرة تمثل المبدأ الذي تتحدد تبعا له العناصر المختلفة للكل ومكانة كل جزء داخله.

5. المنظور القيمي : إن العمل القيمي الذي تضطلع به الفلسفة، هو المهمة التي تثبت ارتباطها بالواقع الإنساني، فرهان التفكير في القيم الأخلاقية هو تحسين شروط الوجود الإنساني، وفي هذا السياق يدعو "جون لوك" إلى التسامح بوصفه قيمة مركزية حين يتعلق الأمر بتحقيق التعايش السلمي بين الناس, ومنه فان حرية الاعتقاد حق مقدس ينبغي أن لا ينتهك بمبرر الدين أو غيره، فالاختلاف بما هو قيمة أساسية ينبغي احترامها يؤسس لقيم التسامح والتعايش والاحترام.

تركيب:
 يشكل السؤال جوهر الفلسفة ومنبع كل تفكير فلسفي ومنطلقه والذي يتسلمه المفهوم الفلسفي فيشكل أداته ووسطه، أما الحجاج فهو طابعه المميز وأمارة العقلانية وعدم التسليم بغير ما تثبته الحجة العقلية, والتي تشكل إلى جانب البناء الحجاجي برمته نسقا فلسفيا تترابط عناصره فتعرف بعض أجزائه ببعض،هذا وان الرهان الأقصى للتفكير الفلسفي إنما هو العمل على تحسين شروط الوجود الإنساني وذلك بالتأسيس العقلي لقيم إنسانية كونية مشتركة.

شاركه

عن Mehdi

هذا النص هو مثال لنص يمكن ان يستبدل في نفس المساحة ايضا يمكنك زيارة مدونة مدون محترف لمزيد من تحميل قوالب بلوجر.
    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

28 التعليقات :

  1. أفضل موقع .
    مفيد جدا....❤❤❤❤❤😄🤲🤲🤲😘😰😂😂😂😂😂😂😂😂😂😂😂😂😂😂😂😂😂😂🙄😋🙄😋🙄😭😋😭😋😋😋😋😭😭😋😋😭😋😭😭😋😭😭😂😂😂😂😂😂😂😂😂😂

    ردحذف
    الردود
    1. عكسك لم يعجبني ابدا ,,👎👎👎👎👎👎👎👌👌👌👌👆👆

      حذف
  2. موضوع مفيد جدا شكرا جزيلا😊👍🏻

    ردحذف
  3. Çok güzel ya gerçekten teşekkür ederim

    ردحذف
  4. جزيل الشكر والتقدير ❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤

    ردحذف
  5. جزيل الشكر والتقدير ❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤

    ردحذف
  6. شكرا لكم😊😀☺😄😃😐😉😆😜😛😍😘😙😋😝👍👍👍👍

    ردحذف
  7. نريد منكم جميع المحاور و شكرا

    ردحذف
  8. شكرا إستفدت گثيرا أتمني لكم كل الخير😍😍😍

    ردحذف
  9. شكرا على مجهوداتكم من أجلنا 💕🌼

    ردحذف
    الردود
    1. اكيد شكرا لكم كثيرا 🌼🌼🌷🎀❤

      حذف
  10. انا عني هو عامة مفيد بس مافيه الشي يلي عم دور عليه

    ردحذف
  11. شكرا.انه حقا مفيد ❤

    ردحذف
  12. مفيد.ولكن لا يتضمن أشياء كثيرا يعني ملخص كثيرا 😑😊

    ردحذف
  13. والله أحسن موقع ممكن ديروا ملخصات دروس

    ردحذف