تحليل ومناقشة نص (( موريس ميرلوبونتي)) الغير دوما حاضر.



 ذ عبدالحميد الصوفي


تحليل ومناقشة نص (( موريس ميرلوبونتي)) الغير دوما حاضر.

    يتميز الإنسان بخصائص عديدة ومتنوعة، فمن الفلاسفة من وصفه بالكائن السياسي ومنهم من نسب له صفات الأخلاق، ولعل أسمى صفة يتميز بها كونه كائن اجتماعي، فٱجتماعيته هذه تفرض وتقتضي وجود آخرين، فالوضع البشري عامة يتميز بالإزدواجية بٱعتبار أن الإنسان كائن هش، معرض ومهدد  دائما بأن يفقد هذا الوجود ذاته ويمكن القول ((إن كنت لا أستطيع تذكر الصرخة الأولى التي أطلقتها، حيث أتيت إلى هذا العالم، فإني أعلم علم اليقين أن شعوري منذ البداية كان شعور كائن سقط في جهة غريبة)) ففكرة السقوط والخضوع لضرورات لاحيلة للإنسان معها، يجعله الكائن الوحيد الذي يسعى بٱستمرار إلى التعالي على وضعه وذلك بفضل وعيه، إلا أنه ليس بفضل التفكير يسمو عن صفات الحيوان وماعداه من الأشياء، بل أيضا في وجوده وعلاقته مع غيره. لكن من هو هذا الغير؟ فقد عرف في أغلب الاشكالات الفلسفية بأنه الأنا الدي ليس أنا، إذن هل معرفة الغير ممكنة أم مستحيلة؟ ألا تسلب هذه المعرفة مقومات الأنا كذات؟ وإذا كانت ممكنة، كيف تجد سبيلها إلى الواقع؟ وإلى أي حد يشكل التواصل مدخلا لمعرفة الغير؟.
  ينتقد صاحب النص فلسفة (( جون بول سارتر)) بحجة أن التشيئ يحصل حين ينغلق كل من الأنا والغير على ذاتيهما ويرفضان كل تواصل ممكن ويتبادلان نظرة حقيرة ولا إنسانية وكأن الإنسان مجرد حشرة ولا يمكن تجاوز هذه الوضعية إلا بالدخول في علاقات تواصلية مع الغير كسبيل وحيد لمعرفته، إذ ذاك ستتلاشى معضلة التشيئ وستزول والواقع إذن أن نظرة الغير لا تحولني إلى موضوع، فالتواصل يقضي على النظرة التشيئية، فحتى الفيلسوف في خلوته التأملية يفكر في هموم الغير لأن رفض التواصل هو في حد ذاته نمط من أنماط التواصل وبهذا تتحول الأناوحدية إلى بينذاتية: إذن تحدد أطروحة النص وفق الصيغة التالية، معرفة الغير ممكنة عن طريق التواصل والحوار، من أجل بناء هذا القول إستعان صاحب النص بمجموعة من الأفكار الفلسفية التي انتظمت على شكل شبكة من المفاهيم التي تنتمي إلى حقل الفينومينولوجيا (الظاهراتية).حيث دحض في مطلع النص موقف الفلسفة الوجودية من العلاقة المعرفية بين الأنا والغير وأكد أن نظرة الغير لا تحولني إلى موضوع أو شيء إلا في حالة واحدة وهي حينما ينغلق كل من الأنا والغير على ذاتيهما ويرفضان التواصل والحوار .ومن جهة أخرى يثبت صاحب النص أن الطابع الموضوعي الذي اتخدته نظرة كل واحد منا على الآخر سرعان ما تختفي، لتأخذ مكانة تواصل ممكن، ذلك أن مجموع العناصر الموجودة في كل إنسان من حرية وطبيعة مفكرة وعمق إنساني قد توقف التواصل ولا تعدمه والملاحظ أن صاحب النص وظف جملة من المفاهيم التي تتمحور حول مفهوم الغير وهي (التواصل، التعاطف،البينداتية...) فرغم الإختلاف الوجودي الموجود بين الأنا والغير، فإن العلاقة المعرفية بينهم هي علاقة تحكمها آليات التواصل والتعاطف والحوار والتي تسعى الذات من خلالها إلى الخروج من ذاتيتها الخاصة لكي تنفتح على الآخر (الغير) الذي يعتبر شبيها لها من حيث مقوماتها الوجودية( الحرية، العمق غير القابل للاستلاب، الوجود الدي لاصفة له...) وشريكا لها في الفضاء القائم كمجال للعلاقات المتداخلة بينها، فضاء البينذاتية والحق أن مجمل المفاهيم والآليات الإستدلالية التي صاحبت أفكار النص، تراوحت بين الإثبات والنفي مادام كل إثبات هو نفي، ليستنتج في الأخير استحالة الحديث عن داتية متعالية في عالم الانسان، فكل داتية تبدو أنها متعالية ماهي الا نوع من البينداتية.
ان ما قدمه صاحب النص يستمد قيمته وأهميته في تجاوزه للنزعة الداتية المتطرفة، سواء في صيغتها العقلانية أو الوجودية وإبراز دور التواصل الرمزي في العلاقة بين الأنا والغير، كما يستمد قيمته من إبراز سلبيات الإنعزال عن الآخرين، وهذا ما يجعلنا نعتبره دعوة للإنخراط مع الغير والإنفتاح عليه، فالذات لا يمكنها أن تكتفي بالعزلة والوحدة بل ولا يمكنها ذلك لأنها محكومة وجوديا بالتواصل مع الغير.
نخلص من هذا التحليل إلى أن معرفة الغير ممكنة بوصفه ذاتا لا بوصفه موضوعا وأنها قائمة على التعاطف لا الموضعة وهو ما يمكنني من النفاذ إلى طبيعته وأتعرف عليها مثلما أتعرف على ذاتي.
لكن إذا كان الغير يحمل أوجه الإختلاف مع الأنا، مثلما يحمل أوجه الثماتل، فإلى أي حد يمكن التسليم، بما ذهب إليه " ميرلوبونتي"؟ ألا يمكن اعتبار الاختلاف بيني وبين الغير في الأحاسيس والمشاعر يمكن أن يكون سببا في صعوبة أو استحالة معرفته معرفة يقينية كتلك التي أتعرف بها على ذاتي؟ ألا يمكن أن يكون ذلك سببا لقيام علاقات التشيء والنفي والموضعة بين الأنا والغير؟.
تأكيدا لهذا الموقف الذي سجله " ميرلوبونتي" يرى " ميخائيل باختين" أن معرفة الغير ممكنة إلى أبعد الحدود، لأن التواصل مع الغير هو أساس الوجود الإنساني الذاتي، فالإنسان لا يستطيع أن يعيش في العزلة ولايستطيع الإكتفاء بذاته لأن وجوده في أصله ( داخلياأوخارجيا) هو تواصل عميق مع الغير وعبر الغير.ولاأستطيع أن أصير أنا ذاتي بدون الغير، يلزمني أن ألغي ذاتي في الغير،وأن أجد الغير في ذاتي (في الإنعكاس والإدراك المتبادلين) لكن إذا كان كل من " ميرلوبونتي" و"باختين" يؤكدان على إمكانية معرفة الغير عبر التواصل وانطلاقا من التشابه الوجودي بين الأنا والغير، فإن هذا لاينفي وجود اختلاف بينهما وبالتالي ألا يمكن اعتبار هذا الاختلاف سببا في ضياع التواصل ومنه ضياع المعرفة المتبادلة بينهما كذاتين؟ ألا يمكن اعتباره سببا لظهور علاقات معرفية أخرى مبنية على أساس التشيء والنفي والموضعة المتبادلة؟ يؤكد "سارتر" من هذا المنطلق،بخلاف ماذهب إليه ميرلوبونتي وباختين، أن الوجود الواعي للغيروالدات لا يجعل العلاقة المعرفية بينهما معرفة ذات لذات، بل يجعلها معرفة ذات لموضوع ومن هنا ينشأ الصراع من أجل نزع الاعتراف وبالتالي فمعرفتي بالغير لا تكون بوصفه ذاتا بل بوصفه موضوعا قابلا للتشيء والنفي. من هنا تكون معرفته كذات، معرفة مستحيلة في ظل الوجود القائم على الصراع وهو الوجود الذي وصفه "سارتر" بالجحيم في قولته المشهورة في مسرحية "الغتيان" الجحيم هم الآخرون وللأسف نحن هم الآخرون. أما " مالبرانش" فيؤكد هو الآخر، انطلاقا من الفلسفة العقلانية على استحالة معرفة الغير، وذلك نظرا لإختلاف التجارب وعليه فإننا نكون مخطئين اذا كونا معرفة على الآخرين اعتمادا على الإحساسات التي كوناها على أنفسنا وهكذا فإن معرفتنا بالغير تبقى متسمة بالتخمين والإفتراض والقياس وبعيدة عن اليقين الذي ندرك به ذواتنا.

  نخلص من تحليل ومناقشة هذا النص، إلى أن الموقف من إدراك ومعرفة الغير، يختلف بإختلاف التوجهات الفكرية والفلسفية، هكذا يتقاسمها، الإمكان وعدم الإمكان...لكن الأكيد هو أن معرفة الغير لا يمكن الإستغناء عنها لأن معرفة الدات تمر عبر معرفة الغير، وهي قاعدة تخنق التصورات الداعية إلى الإنعزال واستقلال الغير عن الأنا في تجربته الوجودية. إن أساس معرفة الغير هو التعاطف والمشاركة والتواصل الذي يؤسس كما يقول " ميرلوبونتي" (( البينذاتية)) كإشارة إلى الطابع العلائقي الوجودي والمعرفي للإنسان. إن هدا الطابع العلائقي يفتح أمامنا إشكالات فلسفية أخرى تتأطر كذلك ضمن الوضع البشري في بعده الأخلاقي والقيمي ضمن وضع الوعي في الوجود وعلاقة الوعي الإنساني بالتاريخ والالتزام السياسي وغيره من العلاقات الإنسانية، لأن العلاقة مع الغير لا تنحصر في بعدها الوجودي-المعرفي، بل تشمل أيضا الجانب العاطفي-الوجداني، مما يفسر حضور مسألة القيم في تحديد طبيعة العلاقة بينهما لذلك نتساءل: ماطبيعة المبادئ التي تتأسس عليها علاقة الأنا مع الغير؟ أهي مبادئ أخلاقية أم عقلية؟ ذاتية أم كونية؟ هل هي علاقة قائمة على الصداقة والمحبةأم على الغرابة والكراهية؟.
شاركه

عن Mehdi

هذا النص هو مثال لنص يمكن ان يستبدل في نفس المساحة ايضا يمكنك زيارة مدونة مدون محترف لمزيد من تحميل قوالب بلوجر.
    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

4 التعليقات :