التداوي بالفلسفة



ذ: عبد الحميد الصوفي

            التداوي بالفلسفة

   على الشاب ألا يتأخر عن التفلسف وعلى الشيخ ألا يمل من تعاطي الفلسفة، إن من يزعم أنه لم يحن بعد الآوان للتفلسف، أو أنه قد فات الآوان، لهو شبيه بمن يقول إن وقت السعادة لم يحن، هكذا عبر " أبيقور" عن الحق في التفلسف غير مكثرت بالزمن والفئة العمرية المستهدفة، فما أحوجنا اليوم إلى العيادة الفلسفية، في عصر تفاقمت فيه الأمراض بشتى أشكالها وأنواعها واستعصى الأمر على الطب في صورته الكلاسيكية... تفاقم حدة الأسئلة الأنطولوجية، مشكلة الحب، الإنتحار ، العنف، التطرف ، الفقر، الموت... هذه القضايا الإستراتيجية الكبرى جعلت الإنسان يشكو من الإنحطاط والتوعك والوهن، فأصبح الانسان المعاصر يجتر حديث النهايات والميتات ( موت الإيديولوجيا، موت الإنسان، موت المقدس...) وكأننا نشاهد قيامة وجودية سابقة لأوانها.
   انطلاقا من هذا الوضع الدراماتيكي ننطلق من فرضية مؤداها، الفلسفة والتفلسف قادران على تحرير وعلاج الانسان من كافة الأعراض والأمراض، غير أن تبني هذه الفرضية يسوقنا إلى معالجة شبكة من الإشكالات المترابطة من قبيل: إذا كانت الفلسفة فلسفات فأي فلسفة أجدر بعلاج الإنسان؟ هل تحولت الفلسفة اليوم إلى ملاذ للذين يعانون من ضغط المجتمع واكتساح العدمية لكافة مجالات الحياة الاجتماعية؟ وهل التفلسف نمط معرفة أم نمط وجود؟
ان المتأمل في تاريخ الفلسفة اليونانية الكلاسيكية، لواجد صرح فلسفي علاجي ضخم بدءا بسقراط ومحاوريه، حيث كان يداوي أناس أثينا بدعوتهم إلى معرفة أنفسهم، مادام الوجود المشترك يقتضي معرفة الذات والغير، فلا غرابة أن نعتبر الثقافة اليونانية ثقافة السؤال وهو المدخل الأساس لكل ممارسة فلسفية. وبواسطة السؤال يتحول الإنسان إلى كائن مبدع ومفكر في ذاته وفي الآخر ولنا في تجربة "سقراط "عبرة، ألم يقل (( لقد كانت أمي تولد النساء وأنا أولد الأفكار)) وفي خضم عملية التوليد يشعر المحاور بالإرتباك والقلق لينتهي به المطاف إلى الارتياح والطمأنينة لأفكار مبنية على أسس متينة ومنطقية وبعده يأتي " أفلاطون " بفلسفة عقلانية غير منفصلة عن واقعها السياسي والإجتماعي. مدشنا عهدا جديدا من العلاج وهو العلاج بالحوار بطريقة هادئة وديمقراطية." أفلاطون " يتغيا علاج المدينة وتطهيرها من الرذائل وترسيخ الفضائل من أجل تحقيق السعادة وهي الكمال التام، والخير المطلق والغاية القصوى من الوجود، ليست السعادة إذن سوى ممارسة الفضائل الإنسانية الخلقية، والفكرية النظرية. هذه هي القضية المركزية الأخلاقية التي أقام عليها أفلاطون فلسفته السياسية. غير أن لأرسطو نظرة مغايرة لأستاذه " أفلاطون" بخصوص التداوي بالفلسفة، فإذا كان "أفلاطون" يرى أن العلاج بالحوار وحده كافيا، فإن أرسطو يتصور حورا بدون قواعد منطقية صورية لا يستحق ساعة عناء، لذلك جعل من المنطق أداة لعلاج المرض. بناء على معرفة قواعد التفكير المنطقي لأجل سبر أغوار النفس وترسيخ الفلسفة العملية ومداواة الرغبات الجارحة. نستنتج مما سلف أن الفلسفة باعتبارها علاجا هي الفلسفة كما نحياها، عوضا عن الفلسفة الغارقة في المتاليات والبعيدة عن عالم  الحس والأشياء.
الطريف في الأمر أن الفلسفة بعد أرسطو تحولت بمجملها إلى فلسفة علاجية، فكل التيارات الفلسفية في العصر الهلنستي استهدفت التماس طريق السعادة وسط ظروف شديدة الوطأة. فالأبيقورية تواجه المحن بالدعوة الى التحلي بأعلى قدر من الهدوء والرضا بالواقع مع التشبت باللذة ودرء الألم. هكذا إذن تتحدد مهمة الفلسفة الأبيقورية في إخراج المرض من النفس وإعادة الطمأنينة وهذا مايصطلح عليه بالفلسفة الأصيلة. فعلاج المرض لا يتم بالنحيب والسوداوية وإنما بتمارين روحية تصل إلى حد علاج الألم بالألم لبلوغ اللذة.
الحديث عن الأبيقورية يجرنا مباشرة إلى الحديث عن الرواقية والعيش بالتفلسف vivre en philosophie حيث يؤكد هذا التيار الفلسفي على أن نظرة الفرد لذاته ولعالمه الخاص، تحدد بشكل كبير سلوك الفرد ومدى اضطرابه ويظهر هذا القول بشكل جلي فيما قاله " ايبكتاتس" في القرن الأول الميلادي (( الناس لا يضطربون بسبب الأشياء في حد ذاتها، وإنما بسبب وجهات نظرهم التي يتخذونها تجاه هذه الأشياء )) نستنتج مما سبق ذكره أن الرواقية ثمتل حركة فكرية فلسفية داعية إلى التناغم مع العقل والطبيعة من أجل تحقيق الراحة النفسية للفرد ويتم ذلك عبر الابتعاد عن الرغبات والنوازع غير الطبيعية والحق أن الرواقية أثرت بشكل كبير في مجموعة من التيارات الفكرية، أوضحها. مدارس علم النفس، التصوف...
يبدو أن الحديث عن موضوع الفلسفة والتفلسف، بٱعتبارهما علاجا يمكننا من اختراق تاريخ الفلسفة، فحتى الفلسفات التي يعتبرها البعض صارمة وعقلانية جامحة، مثل الفلسفة الديكارتية نعثر بداخلها على وصفات علاجية، و في هذا الصدد يدعو " ديكارت " إلى تبني فلسفة عملية عوض الفلسفة النظرية العقيمة التي تعلم في المدارس ووعيا منه بالدور العلاجي للفلسفة تصدى لاشكالية " انفعالات النفس " أو بالأحرى طبيعة العواطف في مؤلف يحمل عنوان " انفعالات النفس " وهو عبارة عن خلاصة مركزة لمجموعة من الرسائل التي كان يتبادلها  " ديكارت " مع الأميرة إليزابيت وبفضل هذا المؤلف لم يعد ينظر إلى الإنفعالات على أنها أمراض، وإنما أصبح ينظر إليها على أنها تجليات طبيعية وعليه يكون الإنسان عبارة عن فكر ووجدان، انطلاقا من التفاعل بين الاثنين يتحقق التوازن النفسي وإذا كانت الفلسفة المعاصرة عبارة عن  ردة فعل ومحاولة للانفلات من قبضة الثنائيات ومجاوزة العقلانية الجامحة، فإنها لم تخرج عن اطار اعتبار الفلسفة علاج ودواء، ألم يمارس " نيتشه" الحفر الجينيالوجي في المرض؟ ألم يتعاطى الكتابة الجارحة كبديل للكتابة النسقية؟ ألم يقل إن كل فلسفة يمكن أن تكون علاجا لصاحبها؟ فكما أنه لا بد للشعب من جنود ينتجون المأكل والملبس فلا بد له أيضا من جنود ينتجون المعنى والقيمة والفكرة ويقومون أيضا بتطبيب الحضارة والتعبير عن عبقرية الشعب، هؤلاء هم الفلاسفة وكأن " نيتشه " أرسى دعائم الفيلسوف الطبيب الذي تتحدد مهمته في البحث عن الصحة العالمية، كما قدم نقذا لاذعاً للعلاجات الكهنوتية وطريقة تعاطي العامة مع المرض، فمعظمهم يلجأ إلى البكاء والحزن والإحساس بالإحباط ((  بقطع النظر عن كوني متدهورا، أنا أيضا نقيض المنحط، لقد أثبت ذلك بكوني أتوصل غريزيا إلى اختيار العلاج المناسب دوما في مواجهة حالاتي الصحية السيئة، بينما لا يلجأ المنحط دوما إلا إلى الوسائل المهلكة)) كما اعتبر " نيتشه" أن مجموعة من الأمراض تعود بالأساس إلى قمع الغرائز.
الوقوف على الفلسفة والتفلسف باعتبارهما، نوعا من العلاج، يفترض اعادة بناء التصورات والتمثلات حول الفلسفة، بكونها فن عيش وأسلوب في الحياة وللحياة وليست مجرد اراء وتصورات وخطابا حول خطابات.




شاركه

عن Mehdi

هذا النص هو مثال لنص يمكن ان يستبدل في نفس المساحة ايضا يمكنك زيارة مدونة مدون محترف لمزيد من تحميل قوالب بلوجر.
    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات :

إرسال تعليق