ابن رشد في مرآة الحداثة

حسن الادريسي                                                  
ابن رشد في مرآة الحداثة

بادئ ذي بدء، يمكن القول بأن اللقاء بين الحداثة وابن رشد(1198- 1126 م) من الصعب تصوره، إذ كيف يمكن رؤية فيلسوف ينتمي إلى القرون الوسطى في مرآة الحداثة أي الأزمنة الحديثة؟ لذلك يتعين علينا أن نزيح الالتباس الذي قد يثيره الكلام عن العلاقة المحتملة لابن رشد بالحـداثة،فقد يُفـهم من عنوان المقالة " ابن رشد في مرآة الحــداثة " ربط ابن رشد بالحداثة؛ أي اعتباره مؤسسا ورائدا للحداثة، إننا لا نقصد هذه الغاية أبدا،إيمانا منا بأن زمن ابن رشد ليس هو زمن الحداثة( بإشكالاته وموضوعاته وقضاياه)، فنحن لا نقصد أبدا أن يكون قد خطر على بال فيلسوف قرطبة وقاضي قضاتها التفكير في الحداثة وذلك لعدة أسباب :
 أولا: لكون الحداثة كمشروع فكري ورؤية للطبيعة والإنسان والعالم هي وليدة القرن 17م وق 18م ، أي أنها ثمرة مجموعة عوامل تظافرت واكتملت فيما بينها ساهمت بشكل أو بآخر في إنتاج وميلاد هذا الذي نسميه ب "الحداثة "، هذا هو السبب الأول الذي يحجُب عنا رؤية ابن رشد في مرآة الحداثة.
أما السبب الثاني الذي يحجب عنا هذه الرؤية،  فيتمثل في كون الحداثة تحققت بفضل احتلال الإنسان مركز الصدارة في العالم، فبعد القولة الشهيرة لديكارت(1596-1650) والتي افتتحت بها الحداثة تفكيرها وهي قولة " أنا أفكر إذن أنا موجود "je pense danc je suis صار الإنسان هو موضوع وأفق ومحط الاهتمام والتفكير، وهو الذي يشكل رهان السلوك والتفكير في آن واحد ، أي مع الأزمنة الحديثة- بدءا بالقرن 17م - وخصوصا مع ديكارت وكانط وهيجل أصبح فلك التفكير يدور حول مركز واحد هو مركز الإنسان،فهل تستطيع الفلسفة الرشدية أن تقدم لنا شيئا فيما يخص الذات التي أدت إلى ميلاد الإنسان الحديث وفيما يخص العقل الذي أدى إلى ميلاد العلم الحديث؟ بمعنى آخر، كيف يمكن الحديث عن حداثة ابن رشد؟
إن البحث عن الذات في آثار ابن رشد أمر صعب، فقد كان نموذج المعرفة لديه الذي ورثه عن اليونان هو البرهان " الذي يقتضي إلغاء الذات لصالح الموضوع "، استلزم احتلال الانسان مكان الذات تحقيق شرطين كما قال هايدغر " أولهما اعتبار الذات يقينا أولا، والثاني اعتبار هذا اليقين قوام كل يقين لاحق له "، وهذا الشرط يكاد يكون غائبا في فكر ابن رشد. هكذا نكون قد فشلنا في العثور على إحدى علامات الحداثة في المثنالرشدي، أقصد الذات أو الذاتية التي أدت إلى ميلاد مفهوم الإنسان.
ولكن مع ذلك، فهناك مؤشرات قوية أخرى تقول بأن الحداثة خرجت من معطف ابن رشد، أي أن التراث الرشدي الضخم، الفلسفي منه والعلمي، أسهم بشكل أو بآخر في دفع النهضة الأوربية لكي تتحول إلى حداثة، وهذا يعني أن هناك بذور توجد في الخطاب الرشدي لاستنبات واستحداث حداثة قوية من قلب هذا المتن. فكل من يتأمل مسار شخصية أبو الوليد ويُمعنُ النظر في بعض أفكاره الأساسية ومشروعه الفلسفي، لا يملك إلا أن يقدم على المغامرة للكلام في هذا الموضوع، فقد عُرف ابن رشد بكونه رمزا للعقلانية بكل ما تستدعيه من مرادفات ولواحق، أي العقل في تجليه العلمي القائم على البرهان ، فقد كان نموذج المعرفة لديه هو البرهان الذي يقتضي النظر إلى الطبيعة نظرة : عقلانية،علمية،موضوعية ومحايدة بعيدا عن أي تفسير غائي أو أسطوري كيفما كان.
 الحداثة في بدايتها كرست  هذا التصور، وخصوصا مع غاليليو، روني ديكارت وفرانسيس بيكون الذين قالوا بضرورة معرفة الطبيعة معرفة علمية، فقد أكد مؤسس الفيزياء الحديثة غاليليو سنة 1638م في كتابه الشهير" الخطابات " بأن " الطبيعة كتاب مفتوح مكتوب بلغة رياضية".
 هذا القول نجد له صدى من ذي قبل عند ابن رشد، فقد أصر فيلسوف قرطبة على ضرورة معرفة الطبيعة معرفة علمية وتفسير ظواهرها تفسيرا عقلانيا بمنآى عن أي تفسير غيبي أو خرافي أو أسطوري، فلم تعد الظواهر الطبيعية كما يقول صاحب " الكليات في الطب ":" قدرا غير قابل للفهم والتفسير،بل صارت مجالا للتوقع والتدخل البشري" فبالطب مثلا – يقول– يمكننا أن نتدخل لصناعة الصحة بالمقدار المطلوب وفي الوقت المطلوب، وبالفلاحة نتدخل لتحسين النسل والإنتاج إما بتلقيح النباتات أو بإيجاد كائنات جديدة أزكى إنتاجا واكثر مقاومة ".
لأجل ذلك، دعا ابن رشد إلى البرهان كمنهج/طريقة مثلى للوقوف على الحقيقة؛ حقيقة الطبيعة لمعرفة الظواهر المتحكمة فيها ومن ثمة صياغة قوانين ونظريات علمية بصددها ، مما يعني الإيمان برؤية للطبيعة والعالم، رؤية قوامها جملة من المبادئ والأركان؛كالسببية والضرورة والحتمية.
إن أهمية ابن رشد تكمن في كونه ناضل من أجل رؤية عقلانية للطبيعة، هذه الرؤية العقلانية كانت سببا من الأسباب التي دفعتنا إلى اعتباره ممهدا للحداثة الأوربية لكونها أحد شروط الحداثة العلمية. من هذه الجهة يمكن رؤية ابن رشد في مرآة الحداثة ومن ثمة امكانية جعله مدخلا لها من خلال التركيز على مبدأ العقلانية.

الغاية المرجوة إذن من عقد" لقاء" – بلغة ميلان كونديرا- بين ابن رشد والحداثة ليس النظر إلى ابن رشد كمؤسس للحداثة، وإنما البحث عن الجوانب المشتركة بينهما، في مقدمتها جانب العقلانية.

شاركه

عن Mehdi

هذا النص هو مثال لنص يمكن ان يستبدل في نفس المساحة ايضا يمكنك زيارة مدونة مدون محترف لمزيد من تحميل قوالب بلوجر.
    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات :

إرسال تعليق