عبد الحميد الصوفي
الفلسفة والدين.
تكتسي قضية العلاقة بين الدين و الفلسفة،أهمية قصوى في تاريخ الفكر البشري،حيث شكل كل من الدين و الفلسفة تحديا حقيقيا للأخر،فالأديان في صورتها السماوية حينما انبجست في الفضاء الهليني شكلت تحديا كبيرا بالنسبة إلى روح التفكير الفلسفي و صارالإنسان أمام جهازين مختلفين من حيث المفاهيم و الأسس؛ الجهاز المفهومي الأرسطي و من جهة أخرى الجهاز الديني الروحي الذي تمثله الديانات السماوية و الحال أن المنظور الابيستمولوجي للقضية يدفعنا إلى القول بأن الدين شكل ظاهرة فكرية جديدة،كان لزاما على النظرية الفلسفية استعابها و إدماجها ضمن معقوليتها ومن بين المستجدات الدينية مسألة خلق العالم ،البرهنة على وجود الله، خلود النفس البشرية ، علاقة النفس بالجسد .... هذه القضايا ستدفع بالفكر الإنساني في صوره المتعددة إلى رفع التناقض عن العالم رغم اختلاف المنطقات بين الدين والفلسفة إذ يعتمد الفكر الفلسفي على البرهان المنطقي و الإقناع الفكري و نقد الأسس المعرفية، في مقابل الفكر الديني الذي يستند إلى الإيمان الوجداني و الواقع أن التفكير الديني لا يتجه إلى فئة دون أخرى ، بل إنه يتوخى إقناع الناس كافة خاصتهم وعامتهم و لذلك نجده يعتمد في الغالب على الجدل الخطابي و الأسلوب الجدلي الخطابي في الإقناع ، هو نوع من المشادة الكلامية مع الخصم تستهدف إفحامه و إلزامه ، و ذلك بالعمل عل إفساد براهنية أو تحميلها نتائج لم يكن الخصم يقصدها أو يتوقعها ، إنه حركة فكرية عقلية ترمي إلى إبراز تناقض دعوى الخصم أكثر مما تهدف إلى إقامة بنيان متماسك الأركان ، إذ الرسل هم أناس يسعون إلى نقض قوانين العقل و مبادئ المنطق و خرق نواميس الطبيعة و قواعد السببية فالإتيان بالمعجزة ، كان الدليل الأوحد على صحة الرسالة و سلامة مصدرها الإلهي،أما الخطاب الفلسفي رغم قوته و صلابته فإنه لا يمكن أن يخرج عن دائرة الممكن ، و إذا نظرنا إلى قضية العلاقة بين الدين و الفلسفة من زاوية مختلفة ،نجد أنها علاقة قائمة على وشائج من القربى عديدة لكونهما يهتمان بوضع إجابات حول كثير من المسائل و المواضيع الميتافيزيقية.
أدى هذا الوضع المستحدث بين الفلسفة والدين إلى بروز اللاهوت الكنسي في صورة صراع مع الفلسفة بٱسم الدفاع عن الدين و صارت الفلسفة هي بدورها في صراع مع الدين الشعبي و صارت الفلسفة معادية للدين و الدين معاديا للفلسفة و بدا في الظاهر و كان الدين يطلب من الإنسان التخلي عن الفلسفة لكي يكون مؤمنا حقيقيا و بدا و كأن الفلسفة تطلب من الإنسان التخلي عن الدين ليصير فيلسوفا
يعتقد بعض رجال الدين ،أن الفلسفة حينما تتدخل في الشأن الديني كثيرا ما تفسده و تهدمه و تدنسه و أن الدين حينما يتدخل في الشأن الفلسفي كثيرا ما يحرمه و يعطله و يكفره، مما يستوجب وضع علاقة القطيعة بين مجالين مختلفين في الأسس و المنطلقات و الغايات،بعيدا عن لغة التسرع و اصدار الأفكار الجاهزة دعونا نطرح الأسئلة التالية : هل الخصومة بين الفلسفة و الدين هي أمر طبيعي وشيء مثوارت أم هو أمر طارئ وخطأ وقع التسليم به دون تحري أو نقاش؟ ألا يسبب لنا التقريب بين الفلسفة و الدين ارباكا و احرجا؟ و هل يمكن الإقرار بوجود وحدة بين الفلسفة و الدين؟و كيف نفهمها إذا كان الخلاف بينهما قائما ؟ و لماذا نعلم الفلسفة و نحرمها؟
أعداء الفلسفة
تعرضت الفلسفة،بٱستمرار خلال تاريخها البعيد أو القريب إلى أشكال عديدة من العنف و المحاصرة،حيث كان تخوف المناهضين لدرس الفلسفة يقوم في الأغلب الأعم ،على مصادرة قبلية ترى في القول الفلسفي طريقة في النظر النقدي الهادف إلى خلخلة التقليد التراثي المهيمن و من مظاهر العنف االساطعة وصف الفلاسفة بالمجانين و الشواذ و في حالات أخرى إعدام الفلاسفة (إعدام سقراط) و حرق كتبهم و طردهم من المدن، تخويف العامة من التعاطي إلى الفلسفة ، وإذا انتقلنا في الزمان و المكان إلى جغرافيا العالم الإسلامي نعثر على مشاهد سردية تؤكد على ضرورة تحريم النظر الفلسفي لاعتقادهم التام بالكيفية العلمية و العملية للشريعة فٱنبروا يخسسون الفلسفة و الفلاسفة في أعين الحكام و الجمهور ، كما نجد عند ( ابن حبوس،أبي حفص الاغماني، ابن جبير ، الفازازي) و شكلت نصوص *أبو سليمان السجستاني* و فتاوى *ابن الصلاح* في التفسير و الحديث و الأصول و العقائد نصوص راديكالية و عنيفة في حق الفلاسفة ، لقد دعا الأول إلى الفصل بين الدين و الفلسفة و قدم نقدا لاذعا لمنهج إخوان الصفا، رافضا نزوعهم التوفيقي بين الفلسفة و الدين فقال في حقهم: ((تعبوا و ما أغنوا، و نصبوا و ما أجدوا و ما حاموا و ما وردوا، وغنّوا و ما اطربوا، و نسجوا فهلهلوا ، و مشطوا ففلفوا ظنّ ما لا يكون و لا يمكن و لا يستطاع ،ظنوا أنهم يمكنهم أن يدسّوا الفلسفة - التي هي علم النجوم و الأفلاك و المجسطي و المقادير و آثار الطبيعة ، و الموسيقى التي هي معرفة النغم و النقرات و الأوزان ، و المنطق الذي هو اعتبار الأقوال بالإضافات والكميات و الكيفيات –في الشريعة ـ و أن يضموا الشريعة للفلسفة)). منطلقات هذا التصور نكاد نجملها في القول بأن صاحبه يعتقد أن الجهل بالعلوم القديمة من الأمور التي لا تضر المرء شيئا لأن العلم كله و الحكمة كلها في الكتاب العزيز ، لذلك يدعو إلى الاستمساك بالشريعة و الاقتصار عليها دون غيرها ، بٱعتبار أن الشريعة هي وحدها التي تقول الكلمة الفصل في كل معرفة ممكنة ، أما ابن الصلاح صاحب الفتاوى، كان قاسيا إلى حد يعيب على الفلسفة و الفلاسفة حينما تساءل في فتاويه في "مسألة فيمن يشتغل بالمنطق و الفلسفة تعلما و تعليما . هل المنطق جملة و تفصيلا مما أباح الشرع تعلمه و تعليمه(...) وما الواجب على من يتعليمه و تعلمه؟ ما الذي يجب على سلطان الوقت في أمره ؟و إذا وجد في بعض البلاد شخص من أهل الفلسفة معروف بتعليمها و إقرائها و التصنيف فيها ، و هو مدرس في مدرسة من مدارس العلم فهل يجب على سلطان تلك البلدة عزلة وكفاية الناس شره و أجاب " الفلسفة رأس السفه و الانحلال ، و مادة الحيرة و الضلال ، و مثار الزيغ و الثرثرة . و من تفلسف بصيرته عن محاسن الشريعة المطهرة و المؤدية بالحجج الطاهرة و البراهين الباهرة . و من تلبس بها تعليما قارنه الخذلان و الحرمان و استحوذ عليه الشيطان ".
و هذا التشدد يذكرنا بما قاله ابن تيمية من تمنطق تزندق
هذه شواهد قليلة في حق الفلسفة و الفلاسفة في الماضي أما الحاضر أنكى و اشد ، خصوصا حينما تتضافر آلة العنف المادي و الرمزي من منا لا يتذكر ما وقع ل فرج فوده صاحب كتاب نكون أو لا نكون ثم سلمان رشدي صاحب رواية آيات شيطانية و أخرا و ليس أخيرا ما جرى للأديب المصري طه حسين في عقر داره و محمود أركون .
أصدقاء الفلسفة
إذا كنا نميز في مجال السياسة بين الصديق و العدو ، فالفلسفة هي أيضا لها أعداء كثر و لها أصدقاء دافعوا عنها عبر التاريخ و لازالوا يدافعون عنها إلى اليوم رغم أنها لا تحتاج إلى من يدافع عنها بل تفرض فقط وجود شروط معينة لكي تظهر أن قصة العلاقة بين الفلسفة و الدين في صوره الثلاث ، اليهودية و المسيحية و الإسلام هي قصة تاريخ واحد بجغرافية متعددة ، أنها قصة تتلون بلون الفضاء الذي تظهر فيه ، فالتراث الغربي هو بدوره عاش في فترة ما .هذا الصراع بين المنظومة الأرسطية و الفكر الديني الذي كان يدافع عنه أباء الكنيسة غير أن هذا الصراع حسم لصالح الفلسفة مع القديس أوغسطين ، طوما الاكويني و السبب هو دخول وافد جديد لفضاء الإشكالية و هو العلم ، لذلك لا نستغرب لقول هيجل" يبدو أنه قد حل العصر الذي يمكن فيه للفلسفة أن تنشغل بالدين بأكثر حرية و بصورة أجدى و أنجع". لان مضمون الدين هو نفسه مضمون الفلسفة ، لذلك يرى "هيجل" في الدين القدرة على إبراز قيمة الحقوق التي يعلمها العقل و يطبقها ، ولكي تفسح هذه القدرة المجال لبلوغ فكرة الله، يجب أن ينفذ الدين إلى روح الشعب و عاداته ، يجب أن يكون حاضرا في مؤسسات الدولة و في ممارسات المجتمع .و لنا شهادة أخرى في قول ليو شتراوس" إن التحالف بين الفلسفة و الدين يشكل مخرجا لازمة الحداثة و إذا عدنا إلى جغرافيا العالم الإسلامي فإننا نعثر على ماسسة التصالح بين الفلسفة و الدين ، إن مشروع( بيت الحكمة) الذي أطلقه الخليفة المأمون يعبر عن واحدة من لحظات المصالحة بين العقل و الدين في تاريخ الإسلام و ذلك انه ترجع الحاجة إلى مطلبين : إلى استعارة النظم العقلية لحضارات أخرى خاصة الإغريقية و بيئتها في الثقافة الإسلامية من خلال ترجمتها إلى اللسان العربي ثم إن الحاجة إلى مد الإسلام دولة و عقيدة بالسلاح الأمضى في مواجهة خصومه ، غير أن ترجمة إعمال أرسطو إلى اللسان العربي احدث منعطفا جديدا في الذهنية الإسلامية ، إذ تم اكتشاف تصور يعارض و يناقش الدين حول الله و الإنسان و العالم غاية في البناء و الرصانة، ابهر العقول و في نفس الوقت بين الرعب في القائمين على الشأن الديني. لهذا وجد فلاسفة الإسلام أنفسهم مطالبين بتقديم جواب لإشكال علاقة الحكمة بالشريعة و هو الأمر الذي انبرى له ـ أبو الوليد بن رشد ـ في تلاثيتة الشهيرة " فصل المقال "، " الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة "،" تهافت التهافت " و من نافل القول إن ابن رشد سيؤكد عل أهمية الفطرة الفائقة و يجعلها من شروط النظر الفلسفي و من شروط التعلم ويؤكد بان كتب البرهان لا يقف عليها إلا أهل الفطرة الفائقة ؛ فالتلاقي بين المنقول و المعقول يتم لمناسبة صحة الفطرة ، و أن الانفصال بينهما يتم لمناسبة نقص الفطرة ، فالفطرة الناقصة عائق طبيعي أمام كمال المحبة التي قامت بين الحكمة و الشريعة ، و هذه الفطرة هي التي تجعل المرء يعلم أن النظر الشرعي لا يخالف النظر الفلسفي بل يعلم أن الشرع يدعو إلى فعل التفلسف و يجعله كمالا للإنسان ،كما يفصل في "فصل المقال " و أن الأدلة القرآنية لا تخالف الأدلة الفلسفية كما بين في " المناهج" و أن التأمل الذي هو عصب النظر الفلسفي هو أيضا عصب النظر العقلي كما بين في بداية المجتهد ، الحكمة و الشريعة، أختان من الرضاعة و كلاهما حق و الحق لا يضاد الحق بل يوافقه و يشهد له.
يمكن أن نفهم الهجوم على الفلسفة و الفلاسفة في ضوء المتغيرات الاجتماعية و السياسية و قصور الرؤية في العصور السابقة ، أما اليوم يصعب علينا العودة إلى الاشتباك بين الفلسفة و الدين ، بل المر يفترض تعايش المجالات من أجل بناء الإنسان و لا ننسى أن اكتساب أوليات التفكير الفلسفي . يمكن أن يساهم في تعويد الناشئة من الأجيال الجديدة على أدراك أهمية التعدد و الحوار و الاختلاف و التسامح ، فالكثير من مظاهر القصور في أنظمة الثقافة و السياسة و الاقتصاد في مجتمعاتنا تعد محصلة لعدم قدرتنا على توطين القيم الفلسفية في أنظمة تعليمنا ، في جميع أطواره و أسلاكه و تخصصاته .ففي الوقت الذي حسم فيه الفكر الغربي مع دور و أهمية الفكر الفلسفي و العلوم الإنسانية من اجل ترسيخ الفكر النقدي و تقديم أجوبة في الحاضر و التاريخ لازال الخطاب الفلسفي في البلدان العربية يحارب تطرف عديدة و الأدهى من ذلك أن بعض الأنظمة التعليمية في العالم العربي التي اختارت في وقت سابق الانخراط في العصر و شرعت في تدريس الفلسفة و لو بطريقة مؤدلجة اليوم تنقلب على نفسها من خلال نشر تصورات و أفكار مسمومة في الناشئة و الدليل الساطع ظهور كتب مادة التربية الإسلامية التي تهاجم و تحرض ضد الفلسفة .بناء على هذا الحدث و ما رافقه من نقاشات نكاد نقول أننا سنعيش رجات مجتمعية و سياسية ما لم نقدم جوابا شافيا عن السؤال التالي : من هو المواطن أو الفرد الذي نريد اليوم؟
بات من المؤكد والضروري أن نشر ثقافة التسامح و التعايش و قبول الأخر المختلف ، حاجة أساسية و ملحة يجب زرعها في نفوس و عقول الأجيال ، لإنها تساهم بشكل فعال في خلق مجتمع واع قادر على تحمل أعباء المسؤولية و قيادة المرحلة القادمة هي المطالب لا يمكن ترسيخها إلا بواسطة نشر روح الفكر الفلسفي و من يدعو إلى طريق أخر فهو أفاك.
0 التعليقات :
إرسال تعليق